يولد الإنسان على فطرة؛ وهو يحمل رسالة تكمن في باطنه حتى يأتي الباعث الذي يحرك فيه هذا الشعور.. ثم يتحرك فيه الباعث على الفعل الذي هو الهمة.. وكل إنسان يحمل رسالة الخير؛ إلا أن النفس قد ألهمها الخالق، جل وعلا، فجورها وتقواها.. فالإنسان الذي يروض نفسه عن التقوى تتوجه رسالته نحو الخير، أما من روضها عن الفجور فرسالته سيوجهها نحو الشر؛ كما أنه بإمكانه أن يغير رسالته نحو الخير متى أدرك خطأه مصداقا لقوله، عز وجل:
-﴿ ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾، [الأنفال: 53].
-﴿ لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ﴾، [الرعد:11].
-﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّمَن فِي أَيْدِيكُم مِّنَ الأَسْرَى إِن يَعْلَمِ اللّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِّمَّا أُخِذَ مِنكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾، [الأنفال: 70].
من هذا الباب نستنتج أن الهمة والطموح تكون في الخير فيسمو صاحبها، وتكون في الشر فينحطّ صاحبها. ومن بين أسباب ضعف الهمة نجد الجهل هو العائق المظلم، وفساد العلم وهذا يُعدّ في منتهى الخطورة... أما إذا انسحق الجهل، ووُضع العلم في مقامه الأسنا، وصارت العزيمة قوية، وسمت الهمة فحينها نجد الإنسان يطلب معالي الأمور...
وهناك أسس لابد منها حتى يصير الإنسان الفرد المثالي بفطرته التي وُلد عليها؛ فيُعطي لهويته القيمة الحقيقية.. ومن بينها نجد:
* ضبط النفس: في هذا المقام يتعلم الإنسان كيف يُنمّي قدراته الفردية حتى يحصل على طموحاته...
* الفكرة الملائمة للعصر: هذا المقام يتعلم فيه الإنسان كيف يتكيف مع الواقع الاقتصادي، والاجتماعي، ومع الطبيعة.. حتى يجعل الواقع ملائما مع حياته؛ وبالتالي يمكّنه من إيقاظ سلوكيات جديدة.. لأن الإنسان متى غير في سلوكياته فمشاعره نحو الآخر لا محالة أنها سوف تتغير...
من هذه الزاوية، على الإنسان أن يعمل من أجل أن يتغير هو، عوض أن يُحاول جاهدا في تغيير الآخر دون جدوى...
والإنسان الذي يكون عالي الهمة تراه يجود بالنفس والنفيس من أجل بلوغ المرام، وتحقيق طموحاته لأنه يعلم أن المكارم منوطة بالمكاره. حتى قيل: يا عالي الهمة بقدر ما تتغنى، تنال ما تتمنى.
كما أن بالتربية الإسلامية الصحيحة، والتعليم السامي تعلو الهمة، وتكبر الطموحات منذ الطفولة.. ولنا ضرب من الأمثال ومن بينها نجد:
* عائلة الزبير:
كان مصعب بن الزبير، وعروة بن الزبير، وعبد المالك بن مروان، وعبد الله بن عمر أطفالا مجتمعين فسألهم مصعب عن طموحاتهم؟ فقالوا ابدأ أنت؟
- مصعب بن الزبير: طمح في ولاية العراق! فكانت له.
- عروة بن الزبير: طمح في الفقه، وأن يُحمل عنه الحديث! فتأتى له ذلك.
- عبد المالك بن مروان: طمح في الخلافة! فنالها.
- عبد الله بن عمر: تمنى الجنة.
* حسن الفاتح:
كان طفلا عندما وقف به أبوه أمام سور القسطنطينية وقال له: يا ولدي إن النبي، صلى الله عليه وسلم تسليما، قد بشر بفتح القسطنطينية.. فأيقظ هذا الحديث في قلب حسن الفاتح رسالته فحرك طموحه، وعلت همته.. وتأتى له ذلك فكانت قولته الشهيرة:« إنني داخل إلى القسطنطينية، إما أن يكون لي فيها عرشا، أو يكون لي فيها قبرا»؛ كانت هذه القولة ردا على حاكم القسطنطينية آنذاك...
* الإمام الشافعي:
عن عمرو بن سواد قال: قال الشافعي:« ولدت بعسقلان، فلما أتت علي سنتان حملتني أمي إلى مكة، وكانت همتي في شيئين: الرمي، وطلب العلم، فنلت من الرمي حتى إني لأصيب من عشرة عشرة» وسكت عن العلم، فقلت:« أنت والله في العلم أكثر منك في الرمي».
ومن عظمة الهمة نجد الحديث الشريف:« من هم بحسنة، فلم يعملها، كتبها الله عنده حسنة كاملة»، [رواه البخاري عن ابن العباس].
وما يحار فيه العقل هو أن الإنسان إذا طلب شيئا فحصل عليه تراه يمله بعد حين فيبحث عن البديل الأفضل، أو ما هو أكثر منه.. كما جاء في الحديث الشريف:« لو كان لابن آدم واديان من ذهب تمنى ثالثا»، [متفق عليه].
فهنا لا نسمي هذا همة وطموحا، بل أماني فحسب، لأن ذو الهمة العالية دائما يرتقي، وكلما حقق هدفه المنشود تستحسن نفسه صنع يدها، فيطمح إلى ما هو أرقى من الذي حققه بالأمس...
ومن زاوية أخرى نجد بعض الناس يصفون الكفار من المخترعين، والباحثين.. بالهمة العالية! ونحن نعلم أن النصوص القرآنية، والسنة النبوية الشريفة تواثرت على ذم الدنيا، ومدح الآخرة... والكافر إنسان مادي بمعنى الكلمة، وطموحه تعمير الدنيا...
وبالتالي، فهوية الإنسان بين الهمة والطموح هي بلوغ المرام، وتأدية الرسالة التي خلق من أجلها.